آخر المواضيع

تمريض

الممرض المغربي و أزمة الذات





“أتعهد أمام الله وأمامكم، بأن أعيش باستقامة و أن أؤدي بإخلاص واجباتي المهنية. سأمتنع عن أي ممارسة إجرامية أو ضارة. لن آخذ أو أصف إراديا أي علاج خطير. سأبذل ما بوسعي لتطوير مستوى مهنتي، و سأحفظ بسرية تامة الخصوصيات التي تُعهد إلي، و كذا كافة الأسرار العائلية التي سأعرفها في سياق ممارستي المهنية. سأساعد بما في وسعي الطبيب في عمله، و سأضحي من أجل راحة الأشخاص الموضوعين تحت رعايتي”. كانت تلك ترجمة لقَسَم الممرضات الذي اجتهدت في صياغته الممرضة و الإحصائية البريطانية الشهيرة “فلورانس نايتنغن” في القرن التاسع عشر، حيث عملت من خلال كتاباتها و تجاربها على إضفاء طابع الاستقلالية و الخصوصية على مهنة التمريض و شخصنتها من خلال سنّ مبادئ أخلاقية و تقنيات تميز عمل الممرض عن غيره.

الممرض اليوم أمام مسؤولية تاريخية للحفاظ على مكتسبات المهنة أخلاقيا و تقنيا و الرفع من مستواها، الشيء الذي لا يتأتى إلا بالرفع من مستوى ممارسيها. غير أن واقع الأمور حاليا يدفعنا إلى طرح أسئلة بنيوية حول مسببات التشتت و التراجع الحاصل على صعيد المنظومة التمريضية ؟؟.

هنالك جوانب ذاتية تحيلنا على تاريخ مهنة التمريض في المغرب و النظرة المجتمعية الأزلية المُلتصقة بها التي لازمتها و مازالت… لعل تدبّرنا لأغوار التاريخ يُفضي إلى تقسيمه لثلاثة أجيال تمريضية، الأول امتد من سنة 1963 إبّان أول ظهور مؤسساتي للمهنة وصولا إلى سنة 1993، تميّز بتكوين أساسي يدوم سنتين لا يشترط شهادة البكالوريا للولوج إليه و قد أفرز ثلاث فئات هي مساعدو الصحة حاملو الإعدادية، مساعدو الصحة الحاصلون على دبلوم الدولة و مساعدو الصحة الحاصلون على دبلوم الدولة المختصون. 

الجيل الثاني امتد من سنة 1993 إلى سنة 2013، حيث أضحى الولوج إلى التكوين الأساسي مشروطا بضرورة التوفر على البكالوريا و يستمر لثلاث سنوات بعدها مع إحداث سلكين أول و ثاني، كما توسعت التخصصات التمريضية حتى بلغت ثمانية عشر تخصصا.

أما الجيل الثالث فهو جيل جديد بدأ تكوينه الأساسي سنة 2013 بصدور مرسوم إحداث المعاهد العليا للمهن التمريضية و تقنيات الصحة التي صارت مؤسسات للتعليم العالي غير الجامعي، و بتفعيل نظام إجازة-ماستر-دكتوراه و عليه ستتخرج بإذن الله أول دفعة حاصلة على دبلوم الإجازة الوطنية في علوم التمريض مُستهلّ سنة 2017.

الملاحظ إذن أن الأجيال الثلاثة تختلف مسارا و تسمية من حيث الشكل، بَيْد أن جوهرَ المهام المَنوطة بها و النصوص القانونية المؤطرة لها لا يختلف في مجمله. و أن مَسلك الممرض ارتَوى بتحولات جذرية فأثمر تلوينات فئوية كثيرة متشابكة و فقيرة تشريعيا، عكس تكوينات أساسية أخرى بوزارة الصحة كالطب مثلا و التي لم تعرف نفس التغيرات و الاضطرابات البنيوية، الأمر الذي أفرز صراعا بين الأجيال الثلاثة، تارةً كان خَفيّا و تارةً أخرى مُعلَناً، تركّز أساسا حول تشابه التكوين و تطابق المهام و ضبابية التقنين من جهة و حول تبادل الاتهامات بخصوص مسؤولية تبخيس و تشويه ملامح المهنة من جهة أخرى…

نعاين أيضا ركود الفكر التمريضي ثقافيا و مهنيا، إذ يكتفي السواد الأعظم من الممرضين بمرحلة التكوين ليُسلِموا بعدها فكرهم للجمود و اللاإبداع و قُصور التطوير الذاتي سواء بتجديد كفاءاتهم التقنية أو معارفهم العامة…

موازاةً مع نفس التشخيص لا يمكننا إغفال الصورة القاتمة الأزلية التي شكل خطوطها المجتمع المغربي، حيث أصدر حُكما نهائيا قاسيا مفاده أن الممرض، (“الفرملي”حتى الاسم تم تشويهه في محضر الحُكم)، فاشل أكاديميا من خلال عدم حصوله على البكالوريا و أنه تابِعٌ و مُرتشي و فاسد لا قيمة مهنية لديه داخل المنظومة الصحية !!! هكذا تمخّضت العاهة المجتمعية و على نفس الحال بقيت إلى حدود الساعة رغم التطورات الباهرة التي عرفتها المهنة. إلى درجة أن بعض الممرضين، لا سامحهم الله، آمنوا بهذه الصورة فاعتنقوها و ظلوا حبيسي قوقعتها فكرّسوا لتلك الممارسات المشينة و تبنّوها عن وعي أو عن غير وعي… بل منهم من أبدع فيها !!. 

أما عن الجانب الموضوعي الذي أسهم في هذا التراجع فيعود بالأساس إلى تعاطي الوزارة الوصية من خلال مسؤوليها المتعاقبين على تدبير الشأن التمريضي الذين لم يُظهروا إرادة صادقة بغية الرقي بهذه المهنة و الاعتراف بدورها التاريخي و البطولي في تمكين المواطنين من الخدمات الصحية حيثما كانوا رغم العلل و النقائص، كما تعمد بعض المسؤولين إقبار المهنة و تهميش مزاوليها الذين يشكلون أكثر من نصف موظفي الصحة (52,6%)، و استغلالهم كأكباش فداء و كصمامات للتستر على سوء التدبير الصارخ بمختلف المؤسسات الصحية. لكن يكفي الممرض المغربي فخرا أنه الموظف الصحي الوحيد الذي يزاول منفردا بالمستوصفات القروية التي تعد أول نقطة التقاء بين المواطن و المنظومة الصحية كما ساهم ميدانيا في القضاء نهائيا على مجموعة من الأوبئة التي نخرت البلاد في زمن من الأزمنة، و يكفيه أن دولا عظمى ككندا و ألمانيا لا تتوانى في طلب خدماته و كفاءاته…

هو إذن تشخيص بمثابة اجتهاد شخصي يقبل الخطأ كما الصواب لكنه يحتوي بين سطوره على دعوة إلى وقفة تأمل و مراجعة ذاتية هادئة و عميقة، مع الإيمان بأن التغيير و الأفضل يأتي دائما من الداخل و أن البنيان قوي بصلابة أساسه و دعائمه، كمَـثَـلِ البيضة إن هي كُسرت من الخارج كان مصيرها الهلاك و الزوال و إن هي كُسرت من داخلها وَهَبت حياةً جديدةً و آمالاً مديدةً… ” و الله يهدي علينا مسؤولي وزارة الصحة و المجتمع… و الله يهدي علينا راسنا”.

و اعذروا زلات و هفوات أخيكم و رفيقكم محمد عبد الله موساوي . 
بقلم محمد عبد الله موساوي 
أستاذ دائم بوزارة الصحة.

الممرض المغربي و أزمة الذات مراجعة أسرة التمريض يوم 11:18 ص التقييم: 5

ليست هناك تعليقات:

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.